في صورة دائمة، يتجدّد النقاش حول حرية المعلومات على الإنترنت. ويعطي مقال ظهر في مجلة «ساينس» العلمية الراسخة نموذجاً عن هذا الأمر. المفارقة أن هذا النقاش بات جزءاً من الشأن العام، بما في ذلك السياسة، في البلدان الغربية المتقدمة، خصوصاً الولايات المتحدة. في المقابل، تغطّ الدول العربية في نوم عميق حول هذا الموضوع، مكتفية بـ «المناسباتية» في تناوله، مع تبنيها وجهة نظر الشركات العملاقة في المعلوماتية والاتصالات حول هذا الموضوع. ولم يتخذ النقاش عن الحرية الإلكترونية هيئة واضحة عربياً، ولم يصل الى مرحلة التبلوّر في محاور محددة، وكذلك لم يصبح جزءاً من النقاش العام. والأرجح أن ذلك يعود لأن الغرب منتج للمعلوماتية والاتصالات وعلومها، ولتخلف النقاش العام بوجه عام عربياً، وغياب العِلم عنه، إضافة الى أسباب أخرى لا يصعب تصورها.
< مرة أخرى، تجدد النقاش حول حرية الانترنت في الولايات المتحدة. ولعب أمران دوراً بارزاً في ذلك. تمثّل أحدهما في الاتفاقية بين موقع «يوتيوب» YouTube ومجموعة من شركات التلفزة عن بثّ برامج تلفزيونية مباشرة على «يوتيوب»، ما أثار جدلاً حول الملكية الفكرية المتصلة بتلك البرامج، وبقدرة الجمهور على الحصول عليها وإعادة استخدامها. وفي الغرب، ثمة سابقة لافتة. فعندما تعاظمت ظاهرة الفيديو، الذي سار في السوق الأميركية بأيدي شركة «سوني» اليابانية في ثمانينات القرن العشرين، بادرت مجموعة من شركات التلفزة الى رفع دعاوى قضائية ضد الفيديو.
وطلبت منع بيع هذا الجهاز، بدعوى انه يمكن الناس من تسجيل برامج من التلفزيون، من دون الحصول على إذن من الشركات التي أنتجت تلك البرامج. وخسرت الشركات دعاواها. وامتلك الجمهور العام أداة تمكنه من تسجيل برامج مرئية- مسموعة، وإعادة استخدامها. واندرجت تلك الممارسة ضمن ما يعرف باسم «الاستخدام العادل» Fair Use للمحتوى. ومع الاتفاقية التي وقّعها «يوتيوب» مع شركات التلفزة، تجدّدت الأسئلة عن المحتوى والملكية الفكرية والحق في الاستخدام العادل وحرية تداول المعلومات على الانترنت وغيرها.
المجلات العلمية الحُرّة
وتزامن الإعلان عن البث التلفزيوني المباشر عبر «يوتيوب» مع ظهور مقال في مجلة «ساينس»، الناطقة بلسان «الجمعية الأميركية لتقدم العلوم»، عن حرية المعلومات على الانترنت. صدر المقال بعنوان: «تكاثر المجلات الحُرّة على رغم احتدام النقاش».
وركّز المقال على تجربة «المكتبة العامة للعلِم» Public Library of Science، وهي مكتبة رقمية مفتوحة ظهرت في مطلع الألفية الثالثة، بفضل جهود ثلة من العلماء البارزين في الولايات المتحدة، كان في طليعتهم البروفسور هارولد فارمُس، وهو حائز على جائزة نوبل للطب عام 1989 عن بحوثه المتصلة بالعلاقة بين الجينات والسرطان. ولاحظ المقال أن هذه التجربة تطوّرت بقوة. وأصبحت تلك المكتبة تصدر مجموعة كبيرة من المجلات المفتوحة، أبرزها «بلوس» PLos، التي تحمل اسم المكتبة، وكذلك «بيو ميد سنترال» BioMed Central الذي يزوره نصف مليون قارئ يومياً، وغيرهما. وأورد المقال دراسة أجرتها «جامعة هانكن للاقتصاد» (مقرها هلسنكي) أن عشرة في المئة من المقالات العلمية، باتت مفتوحة الوصول، وينمو الجزء المفتوح الوصول من المحتوى العلمي الموثّق، بمعدل واحد في المئة سنوياً، فيما يتوقع أن تعمد المكتبات العلمية الكبرى الى تخفيض الاشتراكات باطراد على ارشيفها الرقمي. وأسهب المقال عينه في سرد القصة المثيرة لانطلاقة حركة نشر المحتوى العلمي إلكترونياً بطريقة مفتوحة، التي أصبحت جزءاً أساسياً من ممارسة البحث العلمي ومكتباته الكبرى حاضراً.
فذات صباح من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1998، التقى شخصان ليحتسيا كوباً ساخناً من القهوة، في مقهى في مدينة سان فرنسيسكو. كان أحدهما البروفسور بات براون، عالِم لامع متفوّق في الطب، شارك في بحوث عن علاقة الجينات بالسرطان، أما الآخر فكان البروفسور فارمُس، الذي ترأس حينها، «معاهد الصحة الوطنية الأميركية»، أضخم مؤسسة للبحوث في علوم البيولوجيا عالمياً.
ما نجم عن لقاء الرجلين، فاق حتى ما توقّعاه، بحيث لم يتردّد فارمس في وصف حال وعيه عند ذلك اللقاء بـ «السذاجة»، مع ما يرادف تلك الكلمة من نية حسنة لا تشفع لها في شيء. فقد نجم عن لقاء الرجلين تجربة تطاول مسألتين أساسيتين: حركة الوصول المفتوح Open Access Movement والدوريات العلمية الرفيعة.
قبل لقاء القهوة ذاك، تعرّف براون إلى الطُرُق التي يستعملها علماء الفيزياء النووية في مختبر «لوس ألموس» الذي صنع القنبلة الذرية الأولى، ويتولى أعلى مستويات بحوث الذرّة، كي يتيحوا لراغبي العلم مشاركتهم أعمالهم عبر الإنترنت. وعمد العلماء إلى وضع مقالاتهم على موقع مفتوح للعموم في شبكة الإنترنت، حمل اسم «لانكس» أو «أراكسيف».
واستهل الرجلان حديثهما بملامسة ميزة غير عادية في العالم الرقمي، وهي أن نسخة وحيدة من النص تكفي لإيصاله إلى أي شخص وفي كل وقت وكل مكان، بصورة إلكترونية وفورية ومن دون تكاليف إضافية. ولاحظا أن ليس ثمة حدود لعدد الأشخاص الذين يستطيعون استخدام المكتبة الرقمية، ما يمثّل تهديداً للناشرين الذين يعتمدون على بيع الكتب والاشتراكات. وبسبب من هذا التهديد الاقتصادي، لا يزال العالم بعيداً نسبياً، على رغم التقدّم المستمر، عن الوصول إلى المكتبات الرقمية المفتوحة التي تحقق الوعد بأن تكون مكاناً لتراكم المعرفة. وكان براون على عِلم بوجود حركة شبابية منتشرة في الجامعات الأميركية تؤيّد النشر الإلكتروني المفتوح وإحداث تغيير أشد جذرية في طريقة نشر العلم. إذ تسعى الى إيصال المقالات، فورياً ومجانياً، إلى الجميع، من موقع إلكتروني صحافي يستطيع الجميع الوصول إلى معلوماته، وكذلك من مكتبة رقمية عامة. تهدف حركة النشر الإلكتروني المفتوح الى تعميم فوائد النشر بطريقة تفوق ما يفعله النشر ورقياً، وذلك بجعل المعلومات العلمية متوافرة بسرعة. واتفق الرجلان على أن تمويل تلك الدوريات، على الأقل في مجال البيولوجيا والطب، يمكن أن يأتي من الحكومة الأميركية، لأنها هي المموّل الأساسي للبحوث. لم يرَ فارمس عقبة في إطلاق موقع إلكتروني تذهب إليه تقارير البحوث التي تموّلها «المعاهد الوطنية للصحة» في أميركا وخارجها، كي يطّلع عليها الباحثون عن المعرفة عالمياً. أكثر من ذلك، كان لفارمُس معرفة مباشرة بأن دول العالم الثالث شديدة الظمأ لتلك البحوث، التي لا تصل إليها إلا بعد مضي سنوات طويلة، أو أنها تطلع على بعض تفاصيلها عبر منشورات مرتفعة التكلفة.
انتصارات صغيرة للحرية
بعد سنة من لقاء القهوة الشتوي، ترك فارمُس إدارة «المعاهد الوطنية للصحة»، وفي قلبه أكثر من حسرة لأن حلماً وردياً عن شيوع المعرفة بفضل الإنترنت لم يتحقق، على رغم أنه سجّل «نصراً» صغيراً، إذ سعى الرجلان الى الإفادة من مبادرة الرئيس الأميركي، حينها بيل كلينتون، الذي عمل على وضع معلومات «الجينوم» على الانترنت، وبصورة مجانية. وحاولا إقناع الإدارة الأميركية بنقل التجربة عينها إلى مجالات علمية أخرى. النتيجة؟ ثارت ثائرة الكونغرس. وانبرى نواب من الحزبين الديموقراطي والجمهوري لحماية المصالح الهائلة التي تنجم عن احتكار المعارف والعلوم، وتنهض عليها صناعات مثل الأدوية والأدوات الطبية والخدمات والدوريات والكتب وغيرها. اندحر الرجلان ولم يتحقق حلم نشر العلم سيولاً عبر الانترنت.
في المقابل، تحقّقت في سياق ذلك الصراع أمور بسيطة.
استطاع فارمُس وبراون إطلاق المكتبة الرقمية العامة الأولى لعلوم البيولوجيا والطب، «بابميد سنترال». تلاها بجهد مفرد من فارمُس، تأسيس «المكتبة العامة للعِلم»، التي تمثّل أحد مظاهر نشاط حركة الوصول المفتوح. وفي ربيع 2003، عقد مؤتمر تأسيسي لـ «حركة النشر المفتوح»، في ولاية ميريلاند الأميركية.
تعزّزت الثقة بمستقبل «بلوس» وبالدوريات المفتوحة الوصول. وتصاعد التأييد سياسياً وثقافياً لحركة الوصول المفتوح. ففي 2007، تجمّع أعضاء في الكونغرس وأمناء المكتبات وأصحاب النشر الإلكتروني المفتوح الوصول، ومن ضمنهم موقع «بلوس»، وبعض قادة العلم، وصاغوا بياناً تفصيلياً عن حركة الوصول المفتوح. وأعربت مؤسسات تمويل أوروبية، مثل «مجلس البحوث الأوروبية» European Research Council، عن تأييدها للنشر الإلكتروني المفتوح الوصول. ثم أعطت «كليّة الفنون والعلوم» في جامعة هارفرد تأييدها لتلك الحركة. وفي 2008، صار الوصول المفتوح جزءاً من سياسة البيت الأبيض (نسبياً)، ما اعتبر انتصاراً «صغيراً» لهذه الحركة.
صحيفة الحياة.