اليوم أضع بين أيديكم بعض تساؤلات ووجهات النظر حول الوصول الحر.
من الساحة العربية المفتوحة:
الكاتب: نارسيسوس،
( هل من حق الإنسان أن يمنع المعلومة المفيدة من الوصول إلى الناس إلا بدفع ثمن معين؟
ليس لدي أي اعتراض على أن يُنسب الجهد الفكري لصاحبه لا لأحد غيره .. لكل إنسان حق مخاصمة ومقاضاة من يسرق جهوده وينسبها إليه ..
لكن مشكلتي مع حقوق النشر .. أن ينتج الإنسان عملا فكريا .. ثم يغلق الباب للإطلاع عليه ولا يفتحه إلا بعد دفع مبلغ معين .. فعليك أن تشتري الكتاب حتى تقرأ المعلومة .. وعليك أن تشتري السيدي حتى تسمع .. والفيلم حتى تشاهد .. .. أما الذي يحاول أن ينسخ وينشر مجانا فياويله يا سواد ليله .. ربما هذه المشكلة غير واضحة المعالم في عالمنا العربي .. لكنها مصيبة المصائب في الغرب وتثار حولها النقاشات بدءا من الفايل شير إلى تصوير السينما بالجوال أو تصوير صفحة من هاري بوتر ونشرها على النت ..
من حق الإنسان أن يتحصل ثمنا لقاء جهده .. من حق الكاتب أن يبيع كتبه ويقبض ريعها .. ومن حق منتج الفيلم أن يربح من فيلمه .. لا مشكلة هنا .. نحن نتفق على هذا
ولا نبيح لأي إنسان آخر أن ينسخ المواد الفكرية أو الفنية ويبيعها ليربح .. فهو هنا يتحصل شيئا ليس من جهده .. يسرق ..لنتفق أنه لا يحق لإنسان الإستفادة ماديا ربحيا من عمل فكري أو فني لإنسان آخر بدون إذنه ..
حتى الآن نحن متفقين مع مفهوم حقوق النشر ..
لكن .. لماذا يتم منع أي إنسان آخر من الإطلاع على ذلك العمل بالمجان؟ .. هنا المشكلة ..
المدافعين عن الحق الفكري الذي يشرع لصاحبه منع إنتاجه عن العقول حتى يتم دفع ثمن المادة .. تبريرهم سيندرج كالتالي:
أننا إذا جعلنا كل الانتاجات الفكرية الثقافية بالمجان .. فلن يدفع أحد .. أو سينخفض ربح صاحب الجهد بشكل كبير جدا ( لو فتحنا بابين باب المجان وباب الدفع التطوعي من باب استحسان المادة ) .. في كلتا الحالتين لن يكون جدوى اقتصادية للمؤلفين .. فسيتوقفون عن الإنتاج .. وتنحسر الحركة الثقافة .. ويقل تأليف الكتب .. ولن تخرج الروايات .. ولا شركات الأفلام ستنتج أفلامها .. ولا المغنون ( مع معرفتنا حرمة الغناء) سينتجوا أغانيهم إذا كان كل شخص سيحصل عليها بالمجان ..
تبريرهم منطقي ومعقول .. إذا كان الهدف من الإنتاج الفكري الإبداعي هو الربح المادي .. فكلامهم صحيح ..
لكن هل لهذا يؤلف المؤلف ويبدع المبدعون؟ .. لأجل المادة؟
المبدع والمفكر الحقيقي .. مستعد لأن يخسر المخاسير كي يعرض إنتاجه .. كي يكتب ويطلع عليه الناس .. ولاءه لفكرته ولذته في اطلاع الناس على إبداعه .. صحيح أن المادة حافز .. لكن المبدع الذي "يقرقع" الإبداع في صدره .. والمؤلف الذي يحلم بالرواية في منامه .. مستعد أن يدفع من دم قلبه حتى تنتشر فكرته ويقرأ الناس كلماته .. هذا هو الإبداع الحقيقي الذي تنهض به الأمم .. هذا هو النتاج الفكري ( الذي وإن كان سيحتمل الخطأ ) إلا أنه سيدفع بعجلة التقدم إلى الأمام سواء كان مفيدا فيؤخذ به أو ضارا ( إلا أنه يعرض جدلياته بعمق ) فيُنقد ويتجنب ..
لكن فتح المجال أمام الإسترزاق من الفكر والإبداع .. صحيح أنه تسبب بكم هائل من الكتب والسيديات والأفلام .. لكن ضاعت الجودة .. تلف المكتبة ساعات وساعات تبحث عن الكتاب الذي يجذب انتباهك أمام مئات الروايات التسويقية والاطروحات التشويقية .. تتصفح مواقع الأفلام تبحث عن الفيلم الرائع الذي سيأسرك وتتذكره فيما بعد .. فلا تجد إلا أفلاما تجارية بلا هدف بلا محتوى ..
سيقول قائل: ومايضيرك؟ .. فلولا تنوع الأذواق لبارت السلع!
وأقول: المشكلة أن تلك الإبداعات الحقيقية .. تلك الروايات التي كتبها كتابها بدم قلوبهم .. تلك الأفلام التي أخرجها أصحابها بعد سنوات من الجنون والهلوسة .. أنها تشترك مع الغثاء والسخافات في مادة التخزين .. فالإبداع الحقيقي يشترك مع سخافات بنات الرياض وشبيهاتها أن كلاهما في كتاب .. يوضع على رف .. في مكتبة .. وكذلك الفيلم الجيد مع الفيلم التافه .. في ديفيدي .. على الرف .. المشكلة أن فتح المجال أمام تسويق الإنتاج الفكري .. تسبب بكم هائل من الغثاء والسطحيات .. كل من أراد أن يربح قام يؤلف رواية يضيف إليها البهارات .. وشركات الأفلام قامت تنتج بناء على الريع .. لا بناء على جوائز المهرجانات والفن .. مالذي حصل؟ .. أن تراكم الكتب على بعضها تسبب بحجب الإبداعات الحقيقية عن العيون .. تسبب بضياعها في الطوشة .. تسبب بكونها عنواين مجهولة في رفوف مغبرة .. لأن الكتب التسويقية تنتصب أمامك في مقدمة الرفوف وتحت أبهى الإعلانات .. فتظل تبحث وتبحث وتقلب بعينك ويضيع وقتك .. لكن المفروض في عالم يكتب فيه المبدعون لا التجار .. أنك إذا قبضت على كتاب فأنت تقبض على إنتاج فكري لشخص يريد أن يوصل إليك فكرة ما ( حسنة أم سيئة ).. لا على شخص يريد أن يستغل محفظتك ويربح منك ..
هذا الغثاء المنهمر الناتج عن إتاحة تسويق الأفكار .. تسبب بطبقات وطبقات من الأوراق والرفوف والأموال والجهود الضائعة التي تحجب الإبداعات الحقيقية .. والتي من المفروض أن يكون الوصول إليها سهلا كما كان في قديم الزمان .. وليس كالبحث عن إبرة في كومة قش ..
لكن الطلاب في المدارس يدرسون عن فائدة القراءة .. ثم يذهبون إلى المكتبة فلا يجدوا إلا الغثاء أمامهم في أفخم الأوراق وأصقل الأغلفة.. فيتلقفونه ظانين أن هذا هو "خير جليس" ... هذا سيتسبب .. جيلا بعد جيل .. في انطفاء جذوة الابداع من الإنسانية كلها .. فإذا كان بيننا الآن تولوستوي والجاحظ وقد ألفا كتبهم .. لكنها لا تجد الإنتشار اللازم .. ستكون كأنها لم تكن .. فلن يكون هناك إبداع آخر لشخص قرأ تولستوي والجاحظ فيبني على تلك الخلفية الإبداعية وينتج من الجواهر لآلئ ..كلا .. بل لو كان هناك شخص يحب القراءة لكنه لا يتعرض إلا لروايات دانيال ستيل أو هراءات كتب تطوير الذات ( وهي تجارية بحتة ).. هذا الشخص ( لو كان هناك إبداع يقرقع في صدره ) فسيكون على مستوى تلك الخلفية القرائية .. وهكذا .. تتعرض الأجيال واحدة تلو الأخرى للغثاء التسويقي .. ومتى أرادت أن تنتج إبداعا حقيقيا .. كانت هناك شذرات من ذلك الغثاء في إبداعها .. شيئا فشيئا حتى يضمحل الإبداع الحقيقي من الإنسانية كلها .. وربما بعد ألف سنة سيتلقفون إنتاجات دان براون وعبده خال ويعدونها في مجال الشكسبيريات .. من شدة السخف والإنحطاط التي وصلت له تلك الأجيال ..
كل ذلك بسبب ماذا؟ .. بسبب فتح المجال أمام الإسترزاق من الكلمة والفكر والفن .. بسبب الثقافة الرأسمالية التي جعلت كل شيء قابلا للبيع .. لكن لو كانت هناك مؤسسة تحكم الإنسانية ويصيبها هذا الإنحطاط الثقافي بالقلق .. فإن أول ما ستفعله هو إغلاق المجال أمام الإسترزاق الثقافي .. من أراد أن يبدع فليبدع لكنه لا يستطيع مطالبة الناس إلا بثمن الورق المطبوع عليه أو بثمن بلاستيكة الديفيدي .. ولا يستطيع منع أي شخص من الإطلاع على إبداعه بالمجان ( كأن يصور الكتاب ) .. ومن أراد أن يدفع للمؤلف زيادة من عنده من باب الإستحسان والتشجيع فلا بأس .. لكن يجب أن يُغلق المجال أمام ربحية الأفكار والفن .. فيتوقف أولئك المسترزقون عن تأليف الكتب وطباعتها وإرهاق المكتبات والأشجار بها .. ويتجهون إلى مجالات أخرى .. أما المبدعون الحقيقيون فهم يكتبون لأجل الكتابة ولا لشيء آخر .. هؤلاء الذين سيبرز إنتاجهم إلى العلن وسيكون لها مجال انتشار أوسع .. فتستفيد منه الأجيال وتكون كالرحيق لها لتنتج عسلا في المستقبل .. وعسل المستقبل سيكون رحيقا لما بعده .. وهكذا .. بدل أن يكون "روث" الحاضر هو الرحيق .. فأي نوع من العسل ستنتجه الأجيال اللاحقة؟ ..
ماذا عن المبدعين الحقيقيين؟ .. هل سيموتون من الجوع لو عرضت أعمالهم بالمجان؟ .. كلا .. فالإبداع الفكري لم يكن أبدا حرفة .. بل هواية بجانب عمل آخر .. أما أولئك الذين يتنفسونه في كل ثانية ولا يستطيعون فعل أي شيء آخر غير التفكير والكتابة (السوبر مبدعين).. فصدقني هؤلاء تكفيهم كسرة خبز أمام العيش في كونهم الخاص فلا تقلق من شأنهم .. هؤلاء لو أعطيتهم كنوز الدنيا على أن تحرمهم من التفكير والخيال لمدة دقيقة لرفضوا .. وربما تعوضهم الدولة وتجازيهم من عندها إن كانت إبداعاهم بذلك الشأن الهام .. لكن أهم شيء أن يوقف باب الإسترزاق والإتجار من الفكر .. أم شيء أن يوقف هذا السيل العرم من القذارات والسطحيات والغثاء من جرف رفوف المكتبات وأن يُمنع من تصدير نفسه على أنه إبداع ذو شأن .. لا تفكر بخبز كتاب اليوم ... فكر بأجيال المستقبل وهي تدرس نصوص بنات الرياض وتعدها من الكلاسيكيات .. عندها يحق لك أن تفزع ويتملكك الرعب .. وتطالب بإسقاط حقوق النشر من اليوم..)